تحصنوا بالورع 16/5/1447

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1447/05/15 - 2025/11/06 03:00AM

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فصل لنا الحلال والحرام وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أحسن الكلام وأطاب الطعام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليماً أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، واتقوا النار وأسبابها.

مر النبي ﷺ بتمرة في الطريق فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها».

ودعت امرأة النبي ﷺ إلى طعام فجاء وجئ بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم أيديهم فأكلوا فنظروا إلى رسول الله ﷺ يلوك لقمة في فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، فقالت المرأة يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يُشترى لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة: أن أرسل إليّ بها بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليّ بها، فقال رسول الله ﷺ: «اطعميه الأسارى».

طلب أبو بكر t طعاماً فجاءه غلامه بطعام فأكل منه، فقال الغلام: لم تسألني من أين هو: فسأله، فقال: إني تكهنت في الجاهلية لقوم مقابل مال، فهذا الطعام منه، فأدخل أبو بكر يده في حلقه وجعل يتقيأ، ويقول: والله لو لم يخرج الطعام إلا مع نفسي لأخرجته.

ذكروا عند الربيع بن خيثم رجلاً، فقال: ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله في ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم.

قال بشر بن الحارث - رحمه الله - لا ينبغي لرجل أن يشبع اليوم من الحلال لأنه إذا شبع من الحلال دعته نفسه إلى الحرام.

وقيل لبشر رحمه الله: من أين تأكل، فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وقال: يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة، وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات.

تلك أقوال وأفعال ونماذج أشبه بالخيال، ونقط في بحر الورع والزهد والعفة والقناعة تمثلها خير القرون فسادوا وقادوا.

نماذج راقية نسوقها في زمن التخليط والعبث والسباق المحموم نحو حطام الدنيا الفاني وشهواتها الزائلة.

نماذج رائعة نسوقها في زمن اللهاث والصراع على جمع المال من أي طريق كان.

نسوقها في زمن انطلقت فيه الألسن تنهش أعراض المسلمين والمسلمات وتتفكه بالغيبة وتضعها في قالب الغيرة والنصيحة.

نسوقها في زمن أصبح الشعار فيه: الحلال ما حل باليد، وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.

نسوقها في زمن انحسر فيه معنى الورع من حياة الناس، وانحسر معه استعمال لفظ الحلال والحرام. فصار الحال كما أخبر المصطفى ﷺ «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام».

نسوقها في زمن كثرت فيه المتشابهات وكثر فيه الراتعون حول الحمى يوشكون أن يقعوا فيه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.

إن من عرف ربه وقدره حق قدره وعظم حرماته وشعائره يصل به التعظيم إلى الحيطة والحذر من كل ما يكون مظنة غضب الرب عز وجل في الحال أو في المآل.

إن الورع عند المسلم نوع من الخشية والرهبة تجعله يترك كثيراً من المباحات إن التبست عليه مع الحرام لئلا يجازف بدينه، وإن من العلامات الأساسية للورعين شدة حذرهم من الحرام وضعف جرأتهم على الإقدام إلى ما قد يجر إلى الحرام.

جاء في الحديث: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس».

إن رحلة الانحدار تبدأ بزلة واحدة، والحريص على آخرته يجعل بينه وبين الانزلاق وقايات تستره وتحميه، وإلى هذا يشير الشيخ القباري بقوله: المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بين العبد وبين المكروه فمن استكثر من المباح تطرق إلى المكروه.

إن أصحاب المراتب العالية يحتاطون لأنفسهم بالحذر من بعض الحلال الذي قد يفضي إلى شيء من المكروه أو الحرام وفي الحديث: «اجعلوا بينكم وبين الحرام ستراً من الحلال».

إن العلامة الأساسية لصاحب الورع قدرته على ترك ما فيه مجرد الشك أو الشبهة كما قال الخطابي: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه.

إن ترك المعاصي واجب يقيناً، وإن من الخير ترك ما يقرب منها حذراً من الوقوع فيها، وهذه حيطة يتذرع بها أولوا العزم من الناس فإن الذي يكره الرذيلة يجعل بينه وبينها حجاباً، ويختط منهجاً لحياته بعيداً عن مظانها وعن أصحابها وبذلك يؤمن من الانزلاق إليها ويتمحص من أسباب الإغراء التي تكثر قريباً منها.

ليس الورع يعني التزمت أو العجز عن مواجهة المشكلات المتجددة بحكم الله فيها. كلا فالمسلم يتحرى الحق جهده وينظر ما يلقاه من القضايا والأحكام ببصر نير، فإذا اطمأن قلبه إلى ما يقنعه استقر عليه دون وجل، وإن نفر قلبه من مسلك أو رأي هجره واستراح. قال أبو ثعلبة الخشني t لرسول الله ﷺ : أخبرني ما يحل لي وما يحرم عليّ، قال: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب وإن أفتاك المفتون».

وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».، فالحلال البين لا يخاف الإنسان الناس وهو يواقعه، وإنما يكون الخوف من اطلاع الناس عندما يكون الأمر في دائرة المتشابه.

إن أهل التقوى وقافون عند حدود الله هيابون أن يلموا بشيء يسقط مروءتهم ويغضب عليهم مولاهم.

إنه لاجناح على الإنسان أن يسعى في طلب رزقه ولكن بتوسط واعتدال وبعد عن الريبة المتشابهات، وإن لامتلاك الحياة آداباً. فإن الناس قد ترتكس أخلاقهم فيرون أن ما تيسر أخذه لا يصح أن يتركوه مهما كانت وسائله وهذه بهيمية مقبوحة، وكم ترى الفرق شاسعاً بين رجل يصيره طعامه حطباً للنار وآخر يتكسب الحلال، فإذا ما ينفقه منه على نفسه وولده يحتسب له زكاة ويوزن في عمله مع الباقيات الصالحات.

أيها المسلمون: كما يكون الورع في صور الكسب والمعاملات فإنه يشمل اللسان وسائر الجوارح، ولهذا يقول اسحق بن خلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة.

كم هو عظيم أن تتورع من الفتوى بلا علم ولا دليل، وكم هو عظيم أن تتورع عن الحديث في الآخرين والحكم عليهم بلا عدل ولا إنصاف. والورع كله يجمعه قول المصطفى ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

يوم أن قل الورع رأينا من يتسابقون إلى مساهمات مشبوهة، ويتصارعون للاكتتاب في شركات مختلطة دون نظر في حلال أو حرام أو متشابه وشعارهم: اجعل بينك وبين النار مفتياً.

ويوم أن قل الورع سادت الأثرة، وانعدمت الأمانة، وخاضت الألسنة في لحوم الغافلين بلا خوف ولا وجل.

ماأحوجنا إلى الورع في أقوالنا وأفعالنا ومعاملاتنا وبيعنا وشرائنا، فالورع يعصم صاحبه من الاستدراج، ومن تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه.

ماأحوجنا إلى الورع حماية لديننا وأعراضنا فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .. ما أحوجنا إلى الورع فكن ورعاً تكن أعبد الناس، وخير دينكم الورع. أفلا يمكن أن نرتقي إلى تلك الذروة وأن نربأ بأنفسنا عن السقوط والانزلاق.

وإذا اندثر الورع وخاض الناس في كل شبهة فقد تجرأوا على حدود ، وإذا ذهب الورع ولم يبال الناس بحلال أو حرام فكيف يستجاب الدعاء وكيف يواجه العناء وإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...

 

الخطبة الثانية     أما بعد:

إذا كان الورع محمودا ومطلوبا عند اشتباه الأمور ووجود الخلاف ويتطلب من المسلم إيثار السلامة وتغليب إبراء الذمة تعظيماً لله وإجلالاً له وإعظاماً لحرماته ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه... فثمت ورع  بارد يتدثر به أهل البطالة والقعود، ويتزمل به الناكصون المتذبذبون.

إذا كان التوكل يدعيه أهل التواكل والتكاسل، فإن الورع يزعمه من رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وتركوا الدعوة والاحتساب.

إنه الورع البارد الذي يمثله من يقتلون الحسين ويسألون عن دم البعوضة

إنه الورع البارد الذي يتشبث به فئة من العاملين، حيث يتعلل أحدهم بترك المأمور أو إتيان المفضول ويجد لذلك من تصيد الرخص والأسانيد الواهية ما يقنع به نفسه ويمنعه من بلوغ هدفه، متعللا بالبحث عن السلامة ، وقد قال الله عن المنافقين ( ومنهم من يقول ائذن لي ... )

إنه الورع البارد الذي يدفع للتهرب من المسؤولية فكثيراً ما يحجم بعض الصالحين عن تولي المسؤوليات والأعمال الدعوية، ودافعهم إلى ذلك الورع والبعد عن الشهرة كما نحسبهم، لكنه يتحول عند البعض إلى سلوك يسيطر عليه فيعتذر عن تولي أي مسؤولية أو القيام بها، أو يظن أن هذا أسلم له وأنه يعفيه من التبعة.

إن مسؤولية حمل الدين وتبليغه أمانة شرعية حملها الله تعالى عباده وجعل النبي ﷺ أضعف الإيمان أن ينكر المرء المنكر بقلبه.

لكن ما لا ينبغي الإخلال به هو إصلاح القلب وتفقده فهو المناط والأساس والاجتهاد في العمل للدين والدعوة إليه وأن يشعر المرء أنه إن أعفاه البشر من المسؤولية فسيلقى الله عز وجل ويسائله فماذا هو قائل.

وصورة أخرى من الورع البارد يرسمها فئة من المنهزمين الذين يترددون في تكفير الكافرين وتفسيق الفاسقين

كم يوجد في الأمة ممن يسب الدين ويسخر من مبادئه وأحكامه وهذا في شريعة الإسلام كفر ثم تلقى من يجادل في تكفير الساخر بعد أن قامت عليه الحجة وكذب واستكبر استكباراً.

الورع البارد يرسمه قوم يتورعون عن المدارس والوظائف لكنهم لا يبالون بعد ذلك بقطع الأرحام وعقوق الوالدين وبنهش لحوم العلماء والغش في البيع والشراء، وتحمل الديون مع عدم العزم على الوفاء، فأين حقيقة الورع.

ليس الورع بترك الحلال وتحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وإنما الورع اجتناب المتشابهات وأن تجعل بينك وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً

صح عن عيسى عليه السلام أنه قال: «لو صليتم حتى تصيروا مثل الحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتاد وجرى من أعينكم الدموع مثل الأنهار ما أدركتم ما عند الله إلا بورع صادق».

ومن بعد هذا يا مسلمون حري بالأمة أن تربى على الورع الصادق ابتداء بالقدوات من العلماء والدعاة والمربين، فهم يتأكد في حقهم اجتناب الشبهات والورع عنها إذ هم المرآة أمام الناس ينظرون إليهم ويتأسون بأنفسهم. والتربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً وعمل قبل أن تكون قولاً، وحين يتجاوز المربي حدود الشرع ويخوض في المتشابهات فكيف ستتربى الأجيال على الورع والتقوى ورعاية حدود الله.

يا أمة محمد: لا تغرنكم الحياة الدنيا فتبذلوا في سبيلها دينكم وأعراضكم فالزموا الورع وباعدوا عن المتشابه، وتيقنوا أن فتوى المفتين لن تغني عنكم والله شيئاً، إن كنتم في قرارة أنفسكم غير موقنين.

اسألوا الله أن يكفيكم بحلاله عن حرامه، وأن يغنيكم بفضله عمن سواه، وقد أفلح من أوتي كفافاً وقنعه الله بما آتاه.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

1762376446_تحصنوا بالورع.doc

المشاهدات 382 | التعليقات 0