شاب نشأ في طاعة الله
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ۖ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
عِبادَ اللهِ.. في يومٍ آتٍ شديدٌ حرُّه، طويلٌ قدرُه، يومٌ عبوسٌ قَمْطَرِيرٌ، مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ، لا تَسمعُ فيه إلَّا همسًا، تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الأرضِ فيكون الناسُ على قدرِ أعمالهم في العَرقِ، فمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ كعبَيه، ومِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطِه، ومِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُلجِمُه إلجامًا.
وإذا رأيتَ عبدَ اللهِ ثَمَّ.. رأيتَ سبعةَ أصنافٍ من البشرِ، في ظِلٍّ مِنَ الشَّمسِ والحرِّ؛ ذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فقالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: – وذَكَرَ منهم – شابٌّ نَشَأَ في عِبادةِ رَبِّهِ" متفق عليه.
عباد الله.. كيف استحقَّ ذلك الشابُّ تلك المنزلةَ الرفيعةَ يومَ القيامة، في ظِلِّ عرشِ الرحمنِ تباركَ وتعالى، بعيدًا عن حرِّ الشمسِ ووَهَجِ الموقفِ وأنفاسِ الخَلْق؟
لقدِ استحقُّوا ذلك بعبادةِ اللهِ وطاعتِهِ، في مرحلةٍ يغلِبُ عليها اللهوُ والشهوةُ والضَّياعُ.
إنّ مرحلةَ الشبابِ مَظِنَّةُ التهَوُّرِ والانغماسِ في اللهو والشَهَواتِ، فإذا تَغلَّبَ الشابُّ على شَهَواتِه، وأطاعَ اللهَ، وشغَلَ نَفْسَه بذلك؛ فهو دَليلٌ على قوَّةِ الإيمانِ، ورُويَ أنَّ النبي ﷺ قال: "إنَّ اللهَ ليَعجَبُ مِن الشابِّ ليستْ له صَبْوةٌ" أخرجه أحمد والطبراني، أي: ليس له مَيلٌ إلى الهَوَى والمَعصيةِ؛ لقوَّةِ عَزيمَتِه فِي البُعدِ عن الشَّرِّ مع توفرِ دواعي الشهوة وتيسّر أسبابِها.
أيُّها الأحبَّةُ: عند الحديثِ عن الشَّبابِ، فإنَّنا نتحدَّثُ عن المرحلةِ العُمريّةِ الأهمِّ في حياةِ كلِّ إنسانٍ، حتى إنَّ مَنْ يتجاوزُ تلك المرحلةَ الزاهرةَ في حياتِهِ يندمُ على تضييعِ شبابِهِ وإسرافِهِ فيها.
بَكَيْتُ على الشَّبابِ بدمعِ عَيْني
فلم يُغْنِ البُكاءُ ولا النَّحيبُ
فيا أسفًا أسِفْتُ على شبابٍ
نَعاهُ الشَّيبُ والرأسُ الخَضيبُ
فيا ليتَ الشَّبابَ يعودُ يومًا
فأُخْبِرَهُ بما فَعَلَ المَشيبُ
فهذا الشابُّ الذي أكرمَهُ اللهُ تعالى واختارَهُ بأنْ يكونَ يومَ القيامةِ في ظِلِّ العرشِ، إذا عَرَضَتْ له المعصيةُ في الدنيا وزيَّنَها له الشيطانُ، فإنَّه يكبَحُ جِماحَ نفسِهِ، ويخافُ مِنَ اللهِ، ويمنعُهُ دينُهُ مِنِ ارتكابِ ما يُغضِبُ ربَّهُ تعالى، ويُؤثِرُ ما عندَ اللهِ مِن حياةٍ أبديَّةٍ على المتاعِ الزائلِ.
هذا الشابُّ الذي نشأ في عبادةِ ربِّهِ هو الذي يرى أقرانَهُ في السَّهرِ واللهوِ وسائرِ المُتَعِ، ويشتغِلُ برضا ربِّهِ، وهو مقيمٌ لصلاتِهِ، بارٌّ بوالدَيْهِ، رحيمٌ بأهلهِ، واصلٌ لرحمِهِ، عافٌّ لنفسهِ، قد حسنَ خُلُقُهُ، واشتغلَ بما ينفعُهُ في دينِه ودنياهُ وآخرتِهِ، يسعى في الأرضِ لطلبِ الرزقِ الحلالِ، ويُنفقُ مالَهُ في وجوهِ البرِّ والمباحِ.
فَهَنِيئًا لِشابٍّ تَعَلَّقَ قلبُهُ بطاعةِ الله، وحافَظَ على الصَّلاةِ، واعتادَ مجالسَ الخيرِ، وألِفَ عملَ الصالحاتِ، واشتغَلَ بذِكرِ اللهِ وتلاوةِ القرآنِ، واغتنَمَ شبابَهُ قبلَ هَرَمِهِ، وصحَّتَهُ قبلَ سَقَمِهِ، وغِناهُ قبلَ فقرِهِ، وفَراغَهُ قبلَ شُغْلِهِ.
أيُّها الكرامُ.. إيمانُ الشَّبابِ شيءٌ عُجابٌ، ولذلك مُلِئَ القرآنُ بأخبارِ إيمانِ الشَّبابِ، ومنها قِصَّةٌ عجيبةٌ قصَّها اللهُ –تعالى– في كتابِهِ في سورةِ الكهفِ، أبطالُها شبابٌ مؤمنونَ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)؛ إنَّهم أصحابُ الكهفِ والرَّقيمِ، لقد كانوا شبابًا مؤمنين، واجتمعوا على الخيرِ، وتوجَّهوا إلى عبادةِ ربِّ الأرضِ والسماواتِ: (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، فرّوا بدينِهم، وتوارَوا عن ظلمِ قومِهم، وترَكوا أموالَهم وقصورَهم إلى كهفٍ بعيدٍ، غيرَ أنّ رحمةَ اللهِ تداركتْهُم، فجعلَ اللهُ لهم ذلك الكهفَ رحمةً وسِعةً (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
مِنَ الشَّبابِ الذينَ أثنى اللهُ عليهم: إبراهيمُ عليه السَّلام؛ واجهَ قومَهُ وأنكرَ عليهم عبادةَ الأوثانِ، بل وكَسَّرَها وهو شابٌّ يافعٌ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.
ومنهم الفتى غلامُ الأخدودِ؛ يسعى إلى الشهادة في سبيل ِالله، وترخصُ عليه روحُهُ في إيمانِ أُمَّةٍ، حتى نَالَ على الفوزِ الكبيرِ من ربِّ العالمينَ، قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾، وخَتَمَ اللهُ قِصَّتَهُ بقولِه سُبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾.
أيُّها المؤمنونَ.. وعندما يكونُ الحديثُ عن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ من الشَّبابِ فاسمعوا لقصَّةِ هذينِ الشَّابَّيْنِ؛ آمنوا باللهِ –تعالى– وتغلغلَ حبُّ رسولِ اللهِ ﷺ إلى قلوبِهم، يقولُ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ –رضيَ اللهُ عنه–: إنِّي لَواقفٌ يومَ بدرٍ في الصَّفِّ، فنظرتُ عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامَيْنِ مِنَ الأنصارِ حديثةٍ أسنانُهما، تمنَّيتُ لو كنتُ بين أَضْلَعَ منهما –أي أقوى منهما– فغمزني أحدُهما، فقال: يا عمِّ، هل تعرفُ أبا جهلٍ؟ قلتُ: نعم، وما حاجتُكَ يا ابنَ أخي؟ قال: بلغني أنَّه سبَّ رسولَ اللهِ ﷺ، والذي نفسي بيده، لو رأيتُهُ لم يُفارِقْ سَوادي سَوادهُ حتى يموتَ الأعجلُ مِنَّا.
قال: فغمزني الآخرُ، فقال لي مثلَها، قال: فتعجَّبتُ لذلك، قال: فلم أنشبْ أن نظرتُ إلى أبي جهلٍ يجولُ في الناسِ، فقلتُ لهما: ألا تريَانِ هذا صاحبَكُما الذي تسألانِ عنه؟ فابتدرَاهُ، فاستقبلَهُما، فضرباهُ حتى قتلاهُ، ثم انصرفا إلى رسولِ اللهِ ﷺ فأخبراهُ، فقال: “أيُّكُما قتله؟”، فقال كلُّ واحدٍ منهما: أنا قتلتُه، قال: “هل مسحتُما سيفَيْكُما؟”، قالا: لا، فنظر رسولُ اللهِ ﷺ في السيفَيْنِ فقال: “كِلاكُما قتلهُ”.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ، أيُّها المسلمون:
الكلُّ يُراهنُ على الشَّبابِ، فأعداءُ الإسلامِ يُراهنونَ ليجعلوهم في لهوٍ وغفلةٍ وضياعٍ، تُنفَقُ الأموالُ الطائلةُ لصرفِ الشَّبابِ عن دينِهِ، وكسرِ هِمَّتِهِ، وإغراقِهِ في السَّفاسِفِ، وتدميرِهِ بالمخدِّراتِ، وتحييدِهِم عن قضايا أُمَّتِهِم، ليخرجَ شبابٌ بلا هُويَّةٍ، ولا صلاةٍ ولا أخلاقٍ، همُّهُ شَبَعُ بطنِهِ، وقضاءُ شهوتِهِ، وعدمُ تفويتِ سَهرتِهِ، عاطلٌ خامِلٌ، غارقٌ في اللهوِ والمحرماتِ.
وفي المقابلِ نشاهدُ –بتوفيقِ اللهِ وحمدِهِ– مشاهدَ لِشبابِنا تُثلِجُ الصدرَ، كم مِن شابٍّ يحملُ كتابَ اللهِ بين جَنْبَيْهِ، ومِنهم أهلُ الصُّفوفِ الأُوَلِ في المساجدِ، وآخَرونَ في خدمةِ دينِهم وأُمَّتِهم، تراهم في أفضلِ التخصُّصاتِ والمناصبِ، ومنهم من يرابطُ على ثغورِ البلادِ، يحرسُ ديارَ الحرمين ويذودُ عنها، وأهلُ الخيرِ والإصلاحِ من الشبابِ في كلِّ مكانٍ.
ويا شبابَ الإسلام.. هذا زمنُ الجِدِّ لا زمنُ الغفلة، وقد ناداكم ربُّكم نداءً يهزُّ القلوبَ: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾
ألم يَحِنْ أن تُرفع الهِمَمُ للطاعة، وأن تُترَكَ سُبُلُ اللهو والتفريط؟
وسبيلُ النجاة واضحٌ بيِّن: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
فسارعوا قبل أن يسبقكم الأجل، فالأيامُ تمرّ، والفرصُ لا تعود.
وكونوا ممّن قال الله فيهم: ﴿ أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾
لا ممن قال فيهم: ﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾.
اللَّهُمَّ أصلِحْ شَبابَ المسلمينَ، وحبِّبْ إليهمُ الإيمانَ، وزَيِّنْهُ في قلوبِهِم، وكرِّهْ إليهمُ الكُفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، واجعَلْهُم هُداةً مُهتدينَ، غيرَ ضالِّينَ ولا مُضِلِّينَ، وثبِّتْهُم على طاعتِكَ، واصرِفْ عنهم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بَطَنَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
المرفقات
1764328042_شاب نشأ في طاعة الله - للجوال.pdf