والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، رفعَ شأنَ الأمانةِ في كتابِه، وجعلها سِمةَ المؤمنين، وصفوةَ أخلاقِ النبيين، نحمده سبحانه على ما هدى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ) .  

عباد الله: خَصلةٌ عظَّمَ اللهُ شأنَها، ورفعَ ذِكرَها، وجعلَها مِن سِماتِ المرسلينَ ومناراتِ الصالحينَ، بها تُحفَظُ الحقوقُ، وتستقيمُ الواجباتُ، وتُصانُ بظلِّها الدماءُ والأموالُ والأعراضُ. وبالتحقُّقِ بها تُعمَرُ الديارُ، ويقومُ الدينُ قائمًا على سوقِه. مَن تحلَّى بها نالَ رضا ربِّه، وكُتِبَ في الناسِ محمودُ السيرةِ طيِّبُ الأثَرِ؛ فليستْ أُمَّةٌ ولا دولةٌ ولا جماعةٌ في غِنى عن هذه الخَصلةِ، بل بها تُرفَعُ القلوبُ، وتُصانُ الحياةُ، ويُبنَى مستقبلُ الأُمَمِ.

إنها الأمانةُ التي أمرَ اللهُ تعالى بها بقوله: ( إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ ) وقوله تعالى: ( فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ) ونهى عن ضدِّها وهي الخيانةُ؛ قال الله: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ 27) 

والأمانةُ شعبة من أعظمِ شُعب الإيمان، قال ﷺ: "والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم". ومن حفِظَ الأمانةَ وأدَّاها ولم يُضَيِّعْها دخلَ الجنةَ بضمانةِ النبي ﷺ حيث قال: "اضمنوا لي سِتًّا من أنفسكم أضمنْ لكم الجنةَ: وذكر منها: "وأدُّوا إذا اؤتمنتم".

والأمانةُ خُلُقٌ نبويٌّ عظيمٌ تخلَّقَ به الأنبياءُ وعُرِفوا به، ولما نزلَ الوحيُ على النبي ﷺ وخشي على نفسِه قالتْ له خديجةُ وهي تُطمئنُه: "فواللهِ إنك لتؤدِّي الأمانة، وتصل الرحم، وتَصدُق الحديث". ولما اختلفتْ قريشٌ في وضعِ الحجرِ الأسودِ، حكَّموه ورضوا بحكمِه وقالوا: "هذا الأمين".

وفي قصَّةِ هرقلَ مع أبي سفيانَ رضي اللهُ عنه، لما قال له هرقلُ: "سألتُك عمَّاذا يأمركم؟ فزعمتَ أنه يأمُر بالصلاة، والصِّدق، والعفاف، والوفاءِ بالعهد، وأداءِ الأمانة، وهذه صِفَةُ نبيٍّ". وما من نبيٍّ إلا وقد قال لقومِه وهو يدعوهم: (إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ 107 فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ 108). اتَّصفَ بها موسى عليه السلام؛ كما في قصَّته مع الفتاتين في مَدْيَن حتى (قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَٰٓأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ 26). واتَّصفَ بها هودٌ عليه السلام؛ فقال عن نفسِه مخاطبًا قومَه: (أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ 68)، ولمّا رأى الملكُ أمانةَ يوسفَ وقوَّتَه قال له: (إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ 54).  والأمانةُ من وصايا النبي ﷺ لأمَّتِه؛ فقد قال ﷺ في خطبةِ الوداعِ: "ألا ومن كانت عنده أمانة فليُؤدِّها إلى من ائتمنه عليها".  وهي من أسبابِ إجابةِ الدعواتِ وتفريجِ الكرباتِ، ويشهدُ لذلك خبرُ الثلاثةِ الذين آوَاهُمُ المبيتُ في الغارِ وانطبقتْ عليهم الصخرةُ؛ فتوسَّلَ كلٌّ منهم بصالحِ أعمالِه فقال أحدُهم: "اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَراءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ".

وتضييعُ الأمانةِ من صفاتِ اليهودِ؛ كما قال اللهُ تعالى: (وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ). ولخطورةِ تضييعِ الأمانةِ؛ فقد كان النبي ﷺ يستعيذُ باللهِ من ضدِّها وهي الخيانةُ، فكان من دعائِه ﷺ : "وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة". وتضييعُ الأمانةِ علامةٌ من علاماتِ الساعةِ؛ ولما سُئلَ النبي ﷺ عن الساعةِ قال للسائلِ: "فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ".

وضياعُها من علاماتِ فسادِ الزمانِ التي أخبرَ بها النبي ﷺ بقوله: "سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين".

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَا أَجْمَلَ الْحَدِيثَ حِينَما يَكُونُ عَنِ النَّزَاهَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَمَا أَرْوَعَ الْكَلِمَاتِ حِينَ تُدَبَّجُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الِاخْتِلَاسِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَكِنْ أَجْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَرْوَعُ أَنْ نَرَى الْأَمَانَةَ رِجَالًا، وَالنَّزَاهَةَ فِعَالًا.

إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَمَانَةِ لَيْسَ حَدِيثًا عَنِ الْأَخْلَاقِ وَحَسْبَ، وَلَا عَنْ ضَبْطِ أُمُورِ الدُّنْيَا، إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَمَانَةِ حَدِيثٌ عَنِ الْإِيمَانِ، فَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَمِنْ عَلَامَاتِ الْفَسَادِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا الْمُصْطَفَى ﷺ  أَنْ تُضَيَّعَ الْأَمَانَةُ، وَأَنْ يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ. فَتَعَالَوْا نُقَلِّبْ صَفْحَةَ النَّزَاهَةِ وَالْأَمَانَةِ فِي تَارِيخِ خَيْرِ جِيلٍ، وَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَهَا. وَمَعَ رَمْزِ الْأَمَانَةِ، وَأَمِينِ مَنْ فِي السَّمَاءِ، مَعَ نَبِيِّنَا ﷺ الَّذِي تَحَلَّى بِالْأَمَانَةِ وَلَازَمَهَا فِي صِبَاهُ وَشَبَابِهِ، فَعَرَفَتْهُ مَكَّةُ، وَأَسْوَاقُهَا، وَجِبَالُهَا، وَسُهُولُهَا، فَعَرَفَتْ فِيهِ النَّزَاهَةَ وَالصِّدْقَ، حَتَّى لُقِّبَ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَضَوَّرُ ذاتَ لَيْلَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ، قَدْ طَارَ النَّوْمُ عَنْ أَجْفَانِهِ مِنْ أَمْرٍ أَهَمَّهُ -وَالْمَهْمُومُ لَا يَنَامُ- فَيُسْأَلُ: مَا أَسْهَرَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا الَّذِي جَعَلَ الْأَرَقَ يُلَازِمُكَ؟ فَلَمْ تَغْمِضْ لَكَ عَيْنٌ؟ أتدرون مَا الْأَمْرُ؟ إِنَّهَا تَمْرَةٌ، نَعَمْ تَمْرَةٌ وَجَدَهَا النَّبِيُّ ﷺ تَحْتَ جَنْبِهِ فَأَكَلَهَا، فَتَذَكَّرَ أَنَّ عِنْدَهُ تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ قَدْ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ، فَخَشِيَ ﷺ أَنْ تَكُونَ تَمْرَةً مِنْ جُملةِ هَذَا التَّمْرِ. لَقَدْ خَافَ ﷺ أَنْ يَكُونَ أَكَلَ شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ.

وَمَعَ شَامَةٍ أُخْرَى فِي تَارِيخِ الْأُمَنَاءِ، مَعَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبَ تِجَارَةٍ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَرَجَ كَعَادَتِهِ حَامِلًا عَلَى كَتِفَيْهِ لِفَافَةً كَبِيرَةً مِنَ الثِّيَابِ، وَفِي الطَّرِيقِ يَلْقَاهُ عُمَرُ، فَيَسْأَلُهُ: إِلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِلَى السُّوقِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِلَى السُّوقِ وَقَدْ وُلِّيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ فَقَالَ عُمَرُ: انْطَلِقْ مَعَنَا لِنَفْرِضَ لَكَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَبَعْدَ مُشَاوَرَاتٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ اتَّفَقُوا أَنْ يُفْرَضَ لَهُ شَيْءٌ فِي مُقَابِلِ تَفَرُّغِهِ لِأَمْرِ النَّاسِ.

وَلَمْ يَزَلِ الصِّدِّيقُ عَلَى هَذَا الْمُرَتَّبِ وَتِلْكَ النَّفَقَةِ، يَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ حَاجَتِهِ بِلَا سَرَفٍ، فَأَنْفَقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُدَّةِ خِلَافَتِهِ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُوا مِنْ مَالِي ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَرُدُّوهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمَّا مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَاءَ الرَّسُولُ إِلَى عُمَرَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ".

وَمَعَ الْخَلِيفَةِ الثَّانِي الَّذِي كَانَ أُعْجُوبَةً فِي أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، مَعَ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّذِي جَاءَتْهُ كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى وُضِعَتْ تَحْتَ قَدَمِهِ، لَمَّا فُتِحَتِ الْمَدَائِنُ عَاصِمَةُ الْفُرْسِ وَجُمِعَتْ غَنَائِمُهَا، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْكُنُوزُ وَالْمُجَوْهَرَاتُ الْمُرَصَّعَةُ بِالذَّهَبِ فِي رَوَاحِلَ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْمَدِينَةَ، وَرَآهَا عُمَرُ، وَقَفَ مُتَعَجِّبًا مِنْهَا، وَمُعْجَبًا بِأَمَانَةِ مَنْ جَاءُوا بِهَا، فَقَالَ: "إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ"، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعُوا". وَعَيَّنَ عُمَرُ رَجُلًا اسْمُهُ مُعَيْقِيبٌ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَنَسَ بَيْتَ الْمَالِ يَوْمًا فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَمًا، فَدَفَعَهُ إِلَى ابْنٍ لِعُمَرَ، قَالَ مُعَيْقِيبٌ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى بَيْتِي، فَإِذَا رَسُولُ عُمَرَ يَدْعُونِي، فَجِئْتُ، فَإِذَا الدِّرْهَمُ فِي يَدِ عُمَرَ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا مُعَيْقِيبُ! أَرَدْتَ أَنْ تُخَاصِمَنِي أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي هَذَا الدِّرْهَمِ".  نَعَمْ، هكَذَا كَانُوا. تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- طُرَفٌ يَسِيرَةٌ مِنْ مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ مَعَ الْأَمَانَةِ، وَاسْتِشْعَارِ السَّلَفِ لَهَا.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى.. أَمَّا بَعْدُ: (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ 281 ) 

فَهَذِهِ بَعْضُ أَخْبَارِ قدواتِنا مَعَ الْأَمَانَةِ، فَمَا خَبَرُنَا نَحْنُ مَعَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عَجَزَتْ عَنْ حَمْلِهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ مَا خَبَرُنَا نَحْنُ مَعَ حُقُوقِ النَّاسِ؟! وَالَّتِي تَسَاهَلَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي. مَا خَبَرُنَا مَعَ وَظَائِفِنَا الَّتِي نَكْتَسِبُ مِنْهَا مَالًا، وَهَلْ أَدَّيْنَاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ؟!

مَا عَرَفَ حَقَّ الْأَمَانَةِ كُلُّ مُوَظَّفٍ مُسْتَهْتِرٍ بِأَمْرِ الْمُرَاجِعِينَ، أَخَّرَ مُعَامَلَاتِهِمْ، وَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِكَلَامٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوِ اسْتِئْذَانٍ. مَا عَرَفَ الْأَمَانَةَ ذَلِكَ الْمَسْؤُولُ الَّذِي جَعَلَ مِنْ مَنْصِبِهِ قَنْطَرَةً لَهُ نَحْوَ الثَّرَاءِ، وَأَخَذَ يَتَخَوَّضُ بِالْمَالِ الْعَامِّ بِلا حَسِيبٍ وَلَا رَقِيبٍ، وَكَأَنَّ مَا تَحْتَ يَدِهِ هُوَ مِلْكٌ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ، قَالَ ﷺ: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ".

رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ فَقَالَ: "هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي"، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: "مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

فَشَأْنُ الْأَمَانَةِ – يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ – عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ؛ فَهِيَ إِنْ ضَاعَتْ حَلَّتِ الْخِيَانَةُ، وَإِذَا حَلَّتِ الْخِيَانَةُ عَشَّشَ النِّفَاقُ. إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ خَرِبَتِ الدِّيَارُ، وَفَسَدَتِ الْأَمْصَارُ، وَسَادَ الْخِلَافُ، وَعَمَّ التَّشَاحُنُ وَالتَّدَابُرُ. ضَيَاعُ الْأَمَانَةِ سَيِّئَاتٌ تَبْقَى آثَامُهَا فِي عُنُقِ كُلِّ خَائِنٍ حَتَّى بَعْدَ مَمَاتِهِ، بِحَجْمِ ضَرَرِهِ عَلَى النَّاسِ، وَدُعَائِهِمْ عَلَيْهِ. فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَتَذَكَّرَ وَنُذَكِّرَ مِنْ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَأَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا مَلِيًّا عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَأَنْ نُرَبِّيَ أَبْنَاءَنَا وَشَبَابَنَا عَلَى اسْتِشْعَارِ شَأْنِ الْأَمَانَةِ؛ فَبِهَا تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَتُحْفَظُ الْحُقُوقُ، وَيُرْسَى الْعَدْلُ، وَيَسْتَقِيمُ الْعَيْشُ، وَبِهَا يَصْلُحُ أَمْرُ الدِّينِ، وَيُثْنِيَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا مِمَّنْ يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ عِبَادِهِ الْمُفْلِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ: (وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ 8) 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَمَانَةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النِّفَاقِ وَالْخِيَانَةِ.

 

 

 

 

 

المرفقات

1764905227_��(وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ) �.docx

1764905227_��(وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ) �.pdf

المشاهدات 329 | التعليقات 0