اقتباس
ولا يحسبن أحد أن التطفيف إنما يكون في الكيل والوزن فقط، بل يمتد البخس والتطفيف إلى كل أمر لا يوفَى حقه، ولا يؤدَى على خير وجه، ولا يتقنه فاعله، ولا يُعطَى كل ما يستلزمه من اهتمام أو مال أو جهد أو رعاية... يقول ابن عطية: "المطفف: الذي ينقص الناس حقوقهم...
بعد كفرهم، كان تطفيف المكيال والميزان سببًا في هلاك قوم شعيب -عليه السلام-، قال الله -عز وجل-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ)[هود: 84].
ثم توعد القرآن الكريم كل قوم يأتون بعدهم فيفعلون مثل فعلهم؛ فيُخسرون الميزان ويطففون المكيال ويسرقون في بيعهم وشرائهم، قائلًا: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ثم قال بعدها مباشرة: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)[المطففين: 1-6]، ويروي ابنُ عباس -رضي الله عنهما- سبب نزول هذه الآيات فيقول: "لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله -سبحانه- (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، فأحسنوا الكيل بعد ذلك"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له: "اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق"(تفسير ابن كثير).
وإن كانت هذه هي عقوبة المطففين في الآخرة، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يُعدِّد بعض عقوباتهم في الدنيا؛ فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن"، وذكر من هذه الخمس: "ولم ينقصوا المكيال والميزان: إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم...(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، فالتطفيف أيضًا هو سبب المجاعات والقحط والضنك وظلم السلاطين!
***
ولا يحسبن أحد أن التطفيف إنما يكون في الكيل والوزن فقط، بل يمتد البخس والتطفيف إلى كل أمر لا يوفَى حقه، ولا يؤدَى على خير وجه، ولا يتقنه فاعله، ولا يُعطَى كل ما يستلزمه من اهتمام أو مال أو جهد أو رعاية... يقول ابن عطية: "المطفف: الذي ينقص الناس حقوقهم"(تفسير ابن عطية)، بل يقول الله -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد: 25]، والمراد بالميزان هنا: العدل، يقول الخازن: "(وَالْمِيزانَ) يعني: العدل، أي وأمرنا بالعدل"(تفسير الخازن).
وقال مجاهد وقتادة في قول الله -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ): "(وَالْمِيزَانَ) وهو: العدل والإنصاف"(تفسير ابن كثير).
وخاطب القرآن الكريم البشرية أجمعها فقال: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)[الرحمن: 7-9]، والمراد بالميزان هنا هو نفس المراد به في الآيتين السابقتين: العدل والإنصاف وإيفاء الحقوق وعدم بخسها وتطفيفها... يقول ابن كثير: "وقوله: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) يعني: العدل... (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) أي: خلق السموات والأرض بالحق والعدل، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل"(تفسير ابن كثير).
***
وإذا قلبت النظر فيما حولك وفيمن حولك فلن تجد عناء في رصد كثير من صور التطفيف في عصرنا، فهذا الأب يطفف حق أولاده؛ فربما أمتنع عن الإنفاق عليهم فبخسهم حقهم، وفي هذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته"(رواه مسلم)، وربما أطعمهم وكساهم ولكنه لم يعلمهم الإيمان والقرآن ويطفف حاجاتهم النفسية والقلبية!
وهذا الابن الذي تزوج واستقل بحياته ثم نسى أمه وأباه، من ربياه وحرما نفسيهما ليكفياه، فهو لا يتذكرهما إلا كل شهر أو شهور، قد بخسهما برهما المفروض، وطفف حقها المذكور في القرآن: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23].
وهذا الذي يقف في صلاته بجسده، ويتيه في أحوال الدنيا ومشاغلها بقلبه وعقله، والذي يخطف الركوع ولا يتأني في السجود فهو أيضًا من المطففين، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته"، قال: وكيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها، ولا سجودها"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، والجزاء من جنس العمل؛ فكما طفف الصلاة يُطفف له أجرها: "إن الرجل ليصلي ولعله أن لا يكون له من صلاته إلا عشرها، أو تسعها، أو ثمنها، أو سبعها..."(رواه النسائي في الكبرى، وحسنه الألباني).
وهذا المعلم في مدرسته ربما طفف حقوق طلابه وتلاميذه؛ وذلك إذا بخل ببذل الجهد في إيصال المعلومات إلى عقولهم، أو غاب عنهم بغير عذر...
وهذا الخطيب قد يطفف حق المصلين في مسجده؛ إذا لم يستفرغ الوسع في نصحهم، أو انقطع عن إلقاء الدروس والمحاضرات، أو أهمل في تحضير مادته التي سيلقيها ولم يتقنها...
وهذا المسؤول الذي يستغل منصبه في مصالحه الشخصية، ويحابي أقاربه ومعارفه، ويهمل مصالح الناس ويمتنع عن قضاء حوائجهم... فهو كذلك من المطففين.
وإلى كل هؤلاء المطففين وغيرهم ننقل حديث معقل بن يسار أنه قال إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة"(متفق عليه).
فإياك إياك أن تأتي يوم القيامة في زمرة المطففين، فتصلى بسبب ذلك العذاب الأليم...
وقد تكاتف الخطباء معًا واتحدت كلماتهم مخوِّفة وزاجرة وناهية عن التطفيف في أي مجال من المجالات ومبيِّنة عواره وعواقبه وأضراره... فإليكم بعض خطبهم:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم