عناصر الخطبة
1/التوكل من أعظم العبادات 2/تعريف التوكل 3/أخطاء الناس في التوكل 4/من نماذج المتوكلين 5/من ثمرات التوكلاقتباس
وقد وقع خلل عند بعض الناس في التوكل، فمن الناس من يعتمد بقلبه على غير الله فيتعلق قلبه بالأسباب، غافلاً من بيده الأسباب وهو الله، وهذا شرك أصغر، وهذا كثير الوقوع بين الناس، والواجب على الموحد أن يتعلق قلبه بالله وليس بالأسباب...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي بيده الأمرُ كله، وإليه يرجع الأمر كله، من توكل عليه كفاه، ومن توكل على غيره ما كفاه، وأصلي وأسلم على محمدِ بنِ عبدِ الله، ما من خير إلا دلنا عليه، وما من شر إلا حذرنا منه.
أما بعد: فالتوكل على الله من أعظم العبادات القلبية، التي لها آثارها العظيمة في حياة الإنسان، أمر الله -سبحانه وتعالى- به في كتابه في آيات كثيرة قال -تعالى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 122]، وقال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[النساء: 81]، وجعله الله -سبحانه وتعالى- شرطاً في كمال الإيمان، قال -تعالى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة: 23]، وهو من أخص صفات المؤمنين، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].
عباد الله: إن من أسماء الله الوكيل، وهو الكفيل والكافي والحفيظ، كلها معان للوكيل، فهو الذي يُتوكل عليه، وتفوض الأمور إليه؛ لكماله وقدرته -سبحانه وتعالى-، والتوكل على الله هو الاعتماد بالقلب على الله مع فعل الأسباب الصحيحة، لا بد من هذين الأمرين.
وقد وقع خلل عند بعض الناس في التوكل، فمن الناس من يعتمد بقلبه على غير الله فيتعلق قلبه بالأسباب، غافلاً من بيده الأسباب وهو الله، وهذا شرك أصغر، وهذا كثير الوقوع بين الناس، والواجب على الموحد أن يتعلق قلبه بالله وليس بالأسباب.
ومن الناس من ترك الأسباب ولم يأخذ بها؛ ظناً منه أن هذا ينافي التوكل كالصوفية، فهذا ابتداعٌ في الدين وسفهٌ في العقل؛ كيف تُترك الأسباب التي قدرها الله ولا يؤخذ بها؟! قال صالح بن الإمام أحمد بن حنبل: "سئل أبي عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون، فقال: هؤلاء مبتدعون".
وفي البخاري عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197].
والله -سبحانه وتعالى- قادرٌ على جريان الشيء بدون سبب، ولكن العبد مطالبٌ بالأخذ بالأسباب، قال -تعالى-: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 37].
فالله -سبحانه وتعالى- أجرى لمريم الرزق وهي تصلي في محرابها، ولكنها مطالبة بالأخذ بالأسباب، وتأمل أن الله الذي رزق مريم بدون سبب أمرها أن تأخذ بالأسباب، كما قال -تعالى- في سورة مريم: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[مريم: 25]، فأمرها بهز جذع النخلة مع أنه قادر على إنزاله بدون هز، ومعلوم أن المرأة بعد الولادة ضعيفة، ولكن في هذا تربيةٌ من الله -عز وجل- لأوليائه أن يأخذوا بالأسباب قال الشاعر:
توكلْ على الرحمنِ في كلِ حاجةٍ *** ولا تؤثرن العجزَ يوماً على الطلب
ألم ترَ أنَّ الله قالَ لمريمٍ *** إليكِ فهزي الجذعَ يُساقِطُ الرُطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها *** جنتهُ ولكن كلُ شيء له سبب
عباد الله: الواجب علينا أن نتوكل على الله في جميع أمورنا الدينية والدنيوية، فإذا أردنا النصر على الأعداء فعلينا أن نتوكل على الله؛ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160]، وإذا أعرض عنا الخلق فعلينا أن نتوكل على الله، قال -تعالى-: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[التوبة: 129]، وإذا حلت أقدار الله فعلينا أن نستقبلها بالتوكل على الله؛ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة: 51].
وإن خوفونا بغير الله فعلينا أن نتوكل على الله؛ (قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[هود: 53 - 56]
وإذا أردنا الأرزاق فعلينا أن نتوكل على الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً وتروح بطانا"، وإذا أردنا أن نحفظ من الشيطان فعلينا أن نتوكل على الله، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "من خرج من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله؛ يقال له: هديت وكفيت ووقيت، ويتنحى عنه الشيطان جانبا، فيقول شيطان لآخر: ما ظنك برجل هدي وكفي ووقي"، وإذا أردنا محبة الله فعلينا أن نتوكل على الله؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من المتوكلين عليه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: جاء في البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173]"، "حسبنا الله"، أي: كافينا الله، "ونعم الوكيل"، أي: نعم الموكول إليه أمور عباده، ونعم من توكل عليه المتوكلون، كما قال: (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج: 78].
إبراهيم -عليه السلام- ألقاه قومه في النار عندما سفه أصنامهم، وكسره بيده -عليه السلام-، فانقموا لألهتهم، فأشعلوا نار عظميةً ثم رموه بالمنجنيق، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فتحولت هذه النار الحارة بقدرة الله -سبحانه وتعالى- إلى نار باردة، برودةً لا ضرر فيها على إبراهيم -عليه السلام-، يقول -تعالى-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)[الأنبياء: 68 - 70].
وقال هذه الكلمة النبي -صلى الله عليه وسلم- "حسبنا الله ونعم الوكيل"، قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد، فمر بهم ركب من عبد القيس فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قالوا: هل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة؟ قالوا: نعم، قالوا: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه؛ لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بحمراء الأسد، خارجا لقتالهم في سبعين راكبا، لما بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)[آل عمران: 173 - 174]، ورد الله كيد أبي سفيان، وألقى الرعب في قلبه، فرجع إلى مكة".
فحسبنا ونعم الوكيل هي كلمة التفويض والاعتماد، والكلمة التي شرع أن تقال عند الكروب والشدائد، وفيه أن التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير، ودفع الشر في الدنيا والآخرة.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم إنَّا نسألك لإخواننا المسلمين في كل مكان فرجاً قريباً، اللهم علينا بأعداء هذا الدين إنك أنت القوي العزيز.
عباد الله: صلوا على من أمرك الله بالصلاة عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم صل على محمد، اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين.
عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، فأذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم